وصية الله لكم جلّ وعلا لكم معاشر المؤمنين تقواه في كل آن وحين إلى قيام الساعة يوم الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
"أي خير وأي دين فيمن يرى محارم الله تُنتهك وحدوده تضاع ودينه يُترك وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يُرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورئاساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟! وإن أعظم بلية موت القلوب فإن القلب إذا كانت حياته أتم كان غضبه لله ولرسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل"، كلمات تصف الواقع وكأنها قيلت اليوم أو بالأمس القريب وهي من كلمات ابن القيم قبل أكثر من سبعة قرون.
وتلكم قضية أساسية إن لم يكن الدين في قلوب المؤمنين هو أعظم من كل شيء، وإن لم تكن الغيرة عليه والحمية له هي أولى من كل تأثير آخر فإن ها هنا خللاً كبيرا وإن ها هنا اضطراباً في حياة القلوب أو ضعف حياتها أو مواتها، ولقد قال نبينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (إن الله يغار وإن غيرة الله أن تنتهك محارمه)، وضرب لنا صلى الله عليه وسلم من نفسه المثل: (فما كان يغضب لنفسه فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه قائمة)، ولما جاءه حِبّه أسامة بن زيد عندما حثّه الناس وألحوا عليه أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المخزومية التي سرقت غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لأسامة: (أتشفع في حد من حدود الله؟!)، ثم تكلم في الناس وقال: (والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وكان كذلك انتصاره عليه الصلاة والسلام للمرأة التي كُشفت عورتها في سوق اليهود فأجلاهم بعد أن حاصرهم.
وشواهد ذلك في التربية النبوية للصحابة رضوان الله عليهم كثيرة فقد صحّ عند البخاري من حديث عبدالله بن المغفل المزني رضي الله عنه أنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخذف" وهو الرمي بصغار الحصى وقال: "إنها لا تهزم عدواً ولا تنكأ جرحاً ولكنها تفقأ العين وتكسر السن"، فقال رجل عنده وفي رواية فقال بعض بنيه: لا بأس بهذا أو لا يضر هذا، فقال: "أقول لك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا، والله لا أكلمك أبدا".
وعند ابن ماجة بسند صحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن درهم بدرهمين" فقال رجل: لا بأس بهذا يداً بيد، فقال: "لا بأس بهذا؟!، والله لا يظلني وإياك سقف أبدا"، كل أمر يُعترض فيه على دين الله أو يخالَفُ فيه شرع الله كان الموقف فيه واضحاً؛ لأن الغيرة في القلوب كاملة ولأن الحمية في النفوس مشتعلة ولأن دين الله عز وجل كان هو الأول والأولى في مسيرة الحياة كلها يقدّم على الأموال وعلى النساء والأبناء وعلى الأهل والأقارب والعشيرة وعلى كل المصالح وعلى كل المخاوف من جميع الوجوه.
ومثل ذلك أيضاً ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه لما روى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما رجل يتبختر في برديه -أي متكبراً- فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة فقام فتى وقال: كان يمشي هكذا، أي يستهزئ بالصفة الواردة في هذا، فعثر ثم انتكس فقال أبو هريرة رضي الله عنه وهو يشير إلى فمه: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]وذلك أمر ظاهر فيما كان أصلاً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صحّ عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أن يأكل بيمينه وكان يأكل بشماله فقال: لا أستطيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا استطعت)، فما استطاع أن يرفع يده بعد؛ لأنه قال ذلك تكبراً عن الامتثال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم والتزام الشرع والدين: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
وعلى هذا مضى أخيار الأمة من العلماء والأمراء كل من كان في هذه الأمة مقدماً إنما كان تقديمه لأنه يقدم الدين ويجعل جهده وجهاده وهمّه أن يقيم هذا الدين وأن يحفظه وأن يبلّغه وأن يذود عنه فلما قدموا الدين قدمهم الله في العالمين، والأمثلة أكثر من أن تحصى في مثل هذه المواقف عن الصحابة غنية عن ذكر غيرها كذلك من أعيان التابعين والأئمة المرضيين من علماء الأمة في قرونها وعصورها كلها، غير أني أقف وقفة مع أحد الخلفاء وهو هارون الرشيد الذي تشوّه صورته بأنه يستمع إلى القيان والغناء والمعازف والخمور وغير ذلك، وذلك محض كذب فإن سيرته جهاد وعلم، وروى أبو معاوية الضرير أحد رواة الأحاديث أنه ما سمع حديثاً -أي الرشيد- عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان يقول: "صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله" ولما روي عنده حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (وجدت أني أقاتل في سبيل الله ثم أقتل ثم أحيا فأقاتل في سبيل الله ثم أقتل ثم أحيا فأقاتل في سبيل الله ثم أقتل) قال أبو معاوية: "فبكى هارون الرشيد حتى انتحب" رحمه الله.
والموقف الذي يذكر هنا أنه روي عنده حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "احتج آدم موسى أو حجّ آدم موسى" أي فيما كان من الحوار بينهما المذكور في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وفي القوم رجل من قريش قال: أين لقيه؟ فغضب الرشيد من وقته وقال: "النطع والسيف.. زنديق يطعن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" فما زالوا يهدئونه ويسكنونه ويقولون كلمة بدرت -أي لم يكن يقصد ذلك-، تلك هي الغيرة على دين الله.
ولنعلم أيها الإخوة الكرام أن مقاصد الدين الخمسة التي جاءت شريعة الإسلام بها من حفظ الدين والمال والنفس والعرض كل ذلك مقدمته وأوله حفظ الدين في خمسة أوجه لا بد من كمالها وتمامها على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة وعلى مستوى ولاة الأمور العلم به والعمل به والدعوة إليه والتحاكم إليه والجهاد في سبيله، تلك هي معالم حفظ الدين الذي هو أساس وأول مقاصد شريعة الإسلام، وذلك ما جاءت به آيات القرآن فيما وضّحته لنا من مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129]، تعليم ثم تربية بموجب هذا التعليم وتزكية للقلوب والنفوس بذلك العلم والوحي الرباني: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وذلك أمر ظاهر. وفي الدعوة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، فذلك هو أحسن الناس قولاً.
وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من دعا الناس إلى هدى فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، والأحاديث في فضل تعليم العلم كثيرة في هذا الشأن.
وأما التحاكم والحكم فقد جاء قوله جل وعلا: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ} [النساء: 105] وهذا التحاكم كما قال السعدي: "يقتضي هنا التحاكم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وكذا في العقائد وفي جميع مسائل الأحكام" فإن شريعة الله جلّ وعلا حاكمة وإن القرآن في أمة الإسلام هو المرجع في كل حكم وقضية ولا بد أن يكون ذلك كذلك، وإن انتقاص أي حكم من الأحكام ووضع غيره بدلاً عنه إنما هو معاداة ومحادة لله ولرسوله ومناقضة لعموم حكم الشريعة والقرآن في هذه الأمة: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، ينبغي أن ندرك حقائق هذه الأمور وأن ندرك أهميتها؛ لأن هذا الدين قائم على أصول حفظه سواء كان ذلك بإقامته أو كان بحمايته فإقامته كما قلت بالعلم والعمل والدعوة والحكم والجهاد كما قال عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} [البقرة: 193]، فإن غاية هذا الجهاد إنما هي الحماية للدين ولحرية العقائد ولإقامة الشريعة: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج : 32].
واليوم لدينا مشكلات كبيرة من أجلّها وأعظمها تهوين وتوهين تعظيم الدين في قلوب الناس من وجوه كثيرة أولها الإعلان للمنكرات وإشهارها ومنع من يعترض عليها والحيلولة بين من يقوم بإنكارها وذلك من أخطر الأمور وأشدها ضرراً على الدين وأهله وفي الأمة كلها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن خطورة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: (والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر ولتأخذنّ على يد الظالم ولتأطرنّه على الحق أطرا أو ليسلطنّ الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم)، وقد قال لنا الحق سبحانه وتعالى فيما قصّ علينا من شأن بني إسرائيل وما جرى عليهم من الأمور العظيمة والبلايا العظيمة: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة : 79].
وهذا أمر في غاية الأهمية ولا بد أن نعرف أنه بقدر ما يكون من انتهاك حرمات الله والتعدي على أحكام الإسلام والإعلان عن مخالفة أي وجه من وجوه الأحكام الشرعية لأنه ليس فيها صغير ولا كبير فإن كل أمر من الله عظيم وإن كل حكم من أحكام الله جلّ وعلا جسيم وإن كل أمر عن الله وعن رسوله لا بد أن يُتلقى بالإيمان والتسليم: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء : 65].
والأمر الثاني وهو في غاية الخطورة وهو أمر التبديل والتلبيس على عباد الله والتبديل في شرع الله وذلك بإضفاء المشروعية على ما هو محرم، وبالقول إن هذا أمر لا بد منه في الواقع وإن التغير في حالنا وعصرنا يقتضي منا مرونة وكأنها على حساب ديننا وأحكام شرعنا ويقولون كذلك إن مثل هذا التمسك هو ضرب من التشدد ولون من التطرف وصورة من الانغلاق وقضية يكون فيها مظهرنا في العالم متخلفاً متأخرا! وكأننا إذا تركنا ديننا سيرضى عنا أولئك القوم!! {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، واليوم في ظل هذه العولمة وفي ظل تلك الهمهمة وفي ظل تلك الموجات الإعلامية المضللة يكتب أننا قد بلغنا أو بلغ بعضنا ما أشار إليه حديث حذيفة ويروى مرفوعاً ويروى موقوفاً: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عُودا -وفي ضبط آخر- عَوداً عَودا، فأيما قلب أشربها نُكتت فيه نكتة سوداء فإن تاب واستغفر صُقل منها وإلا أصبح قلبه أسود مرباداً كالكوز مجخّياً -أي مقلوباً- لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) أعاذنا الله وإياكم من ذلك.